إنها الثالثةُ فجرًا

Writers: Menatullah Ahmed and Rowaa Elsayed

Editors: Menatullah Ahmed and Nada Basyouny


إنها الثالثةُ فجرًا، أوشكَ برزخُ البنفسجِ بين الليل والنهار على البزوغِ فى الأفق. أرى بطرفِ عينيىَ من نافذتى المكسوةُ بحبَّاتِ الأتربة دلو اللآلئِ المسكوبُ فوق معطفِ السماءِ الأسود، مبثوثُ و لامعُ كالذهبِ الفاتنِ الخارجِ من فوهتها صباحًا. لتُشَتَتَ حملقتى كالأطفالِ فى تلك اللوحةِ الربانية الملهمة، بكومةِ ليست بضئيلةِ من الأفكارِ،و المشاعرِ، و التساؤلاتِ الوجودية المتناقضة التى يضجُ بها رأسى، و تتناطحُ فيه جميعها بكل الاتجاهاتِ الممكنةِ كالبروقِ المتواليةِ، حتى إنها لم تترك ركنًا واحدًا خاليًا من خرابها المُروع، فمازالَ شغفى المستميتُ فى هذه العادةِ المُشينة من فرط التفكير لساعاتٍ و ساعاتٍ قبل نومى، هى ما ان تبدأ، لا يقوى شئ على صدها.

أوشكَ رأسى على الانفجارِ كقنبلةٍ موقوتةٍ على إثرها، مصاحبة بألم رأسٍ ألِفته، ويكاد يُقطعُ شَكى باليقين أنه سينال منى عمَّا قريبٍ. اتساءل كيفَ يمكنُ للإنسانِ أن يفقدَ شغفه فى الحياةِ و تنطفئُ روحه بهذه السهولة؟ ولنفترض انه ممكن،لماذا أنا؟ لماذا مِن بينِ كلِ هؤلاءِ البشرِ ينتهى بى المطافُ إلى فقدانِ كلِ ما كانَ يبقينى على قيد الحياةِ؟ لماذا انا بهذه الدرجةِ اللامقبولةِ من الفشلِ فى كل شئ، ويكأنَّه اختار طريقى بلا رجعة، شفقة، او ارتخاء وهم لا؟ فقط لماذا؟

تُشَتَتُ لحظاتُ جلدى لذاتى التى ألِفتها هى الاخرى
بالعصافيرُ مكونةً بزقزقتها المزعجة شبه هالةٍ خفيةٍ حول نافذة غرفتى لتفيقنى من غفلتى المعهودةِ و تترجانى لأستكينَ لافساحِ المجال لاستنجاد خلايا مخى بى كى اكُفَّ عن هذا العبثِ غير المجدى و اخلدَ للنومِ،
ولكن هيهات..

حاولتُ، و لكن ككل محاولاتى، بائت بالفشل الذريع حتى أننى قرأتُ آية الكرسىِ مثلما أوصتنى أمى، لا أستطيعُ إنكارَ السلامِ الذى أضفته على روحى، ولكنَّ هذا السلامُ ليسَ كافيًا لإخمادِ الحربِ المشتلعةِ بداخلى الآن، أو حتى برم هدنةٍ مؤقتةٍ بين طرفينِ بالداخلِ أجهلهما.

ينتهى بى المطافُ إلى بحثى بتثاقلٍ فى الظلامِ عنها، آخذُ قرصًا منها، أتجرعها معَ رشفةِ ماءٍ فى غيرِ وعىٍ منى، ثم أغطُ فى نومٍ عميقٍ، حتى أنَّنى لا أستيقظُ لأطفئَ المنبهَ و انامُ من جديدٍ كما افعلُ دومًا، لأننى لم أسمعه منَ الأساسِ. أستيقظُ بعدَ هذا السباتِ كمن نامَ معَ اصحابِ الكهفِ، تُمحى من رأسى فورًا أضغاثُ أحلامى التى حلمتها للتو من قبل حتى أن أحاولَ تذكرها. لم تتسنَ لى الفرصةُ فى تدوينها، أملًا فى ملئِ صفحاتى البيضاءِ المركونةِ على الطاولةِ إلى جانب سريرى ،تغطيها الأقراصُ والعقاقيرُ بمختلفِ أنواعها، أسفلها سلةُ من الأوراقِ المكرمشةِ التى تخبركَ نتيجةَ محاولاتى المستميتةُ فى العودةِ للكتابةِ و التدوينِ من جديد، و التى بائت هى أيضًا بالفشلِ الذريع. تحملُ بينَ طياتها دموعى و أنا أنزوى وحيدًا بصحبتهم مع أقلامى فى حضرةِ القمرِ، و مشاعرى الكثيرةُ المتزاحمةُ من فرطها على حافةِ قلمى والتى تخرجُ دومًا على هيئةِ صمتٍ..لا ليسَ الصمتُ المُشتهَى المريح، هو نوعٌ ثقيلٌ على الروحِ لم اعهده من قبل، هو جامحٌ، موحشٌ، فتاكٌ، صمتٌ يأسركَ و يفرضُ عليكَ قيوده من فَرطِ جبروته.

يخوننى رفقائي الثمانيةُ و العشرونَ الذينَ طالما كانوا اولَ مَن يُلبى نداءَ استغاثتى وانا أتلوى حزنًا فى جوفِ الليلِ، و انا مفعمٌ بالعشوائيةِ و التناقضِ، وأنا أحاولُ تجسيمَ دموعى على هيئتهم، أحاولُ إلصاقَ بعضهم بالبعضِ الآخر، علَّنى أُجدى نفعًا فى جعلهم ذوى معنىً، و أنتشلهم مِن ذاكَ الخمولِ الدنئِ، ولكنَّ كبريائهم فى الوقوفِ منفردينَ متراصينَ بداخلى، آبين على الخروجِ او الالتحامِ، أعلى من ان أتخطاه بشموخى المصطنع. أفقتد نزواتى التى أسقى فيها حروفى برحيقِ شرايينى بارتعاشٍ وحبرٍ يسكو ثناياهُ الخجلُ فتبدأ الكلماتُ فى الترنحِ على عرشِ سطورى بسطوةِ صولجانها المهيبِ…حقًا أفتقدها بشدة. أتصفح مواقع التواصل الاجتماعى كعادتى بلا أى هدف، مجرد محاولة للهروب من الواقع لدخول عالم افتراضى لا يرانى به احد،ولا يطلق احكامه الساذجة علىَّ، و فجأة و بدون أى مقدمات يقفز من اللامكان سؤالين أمامى، أتجلد مكانى منهما للحظات:

“هل يمكنُ للإنسانِ أن يهربَ من نفسهِ؟أيمكنه النفورُ مِن
مجالستها؟”

أهذهِ رسالةٌ لى؟ أهذينِ السؤالينِ يمثلانني؟ أم أنا أهذى؟ أم ماذا؟

و في بُقعةٍ أخرى تمامًا وتحتَ أضواءِ القمر..كان أملٌ آخر قد وجدَ طريقه نحو الحياة، أملٌ آخر كان يلفظُ أنفاسَه الأولى..أملٌ آخر كان يولَد! تدق الساعـة دقاتها الأخيرة مُعلِنَـةً قيام فجرٌ آخر، فجرٌ جديد..فجرٌ يحمِلُ لنا بين ثناياه العديدَ من المفاجآتِ و بضعًـا من تِلكَ اللحظاتِ الاستثنائية، فجرٌ آتٍ من بعيد مُحملٌ بذكرياتٍ تنبضُ..بعضُها قد يُنسى وبعضُها قد يدومُ معنا للأبد..يظلّ نابِضًا حيًا في ذاكِرتـنا! بقمـرٍ مُضيء يتوسطُ السماءَ من فوقِه وبِعدة نجومٍ تناثرت هنا وهناك.. كادت ابتسامةٌ مريرَة أن تُـفلِتَ منه وتجدُ طريقَها نحو ثغرِه مُباشرةً ولكنها تراجَعت في اللحظةِ الأخيرة.

إنها ليلةٌ أخرى من ليالي الشتاءِ القارِص، بعضُ قطراتِ مطر قد استطاعت إيجادَ سبيلـِها نحو زُجاج نافذتِه..وتلك السماءُ الصافِية قد بدأت الغيومُ بالتربصِ لها من هُنا وهُناك..يتزامنُ صوتُ الرعدِ المُدوي مع شرارةِ البرقِ المُروِعـة..ولكن خطواتِه باتجاهِ الشُرفةِ لا تزال ثابِتة كما هي، غير آبهةٍ بما يحدُثُ حولَها..فهناكَ غيومٌ أخرى ما زالت تُعكر صفوَ تفكيرِه..غيومٌ قد تمثلت في سؤالينِ لا ثالِثَ لهما قد استطاعا السيطرة عليه ومُحاصرتِه من كل صوب..ولكن يا لسوءِ حظهما هذه المرة..فإنها الثالِثة فجـرًا!

ما زال يجلِسُ هناك مُبللًا بالكامِل..غارقًا في أفكارِه تارة، وتارة أخرى يتحسرُ على ذاته التي بللها المطر بالكامِل..وبين هذا وذاك ترك للشرودِ مكانًا هو الآخر..يُـثبت عيناه على ذاك القمر من جديد، ذاك الذي بقى متألقًا رُغم كثرةِ الغيومَ من حولِه..يظهرُ براقًا وسَطَ حباتِ المطرِ المُتضارِبة..فهل تُراه يستطيع أن يُصبِحَ مثله يومًا؟ كل شيء يسبحُ في الفراغِ من حولِه، أحلامه تودعه من بعيد..أما شغفه فما زال ضائعـًا هو الآخر..وكأن كل شيء أصبح مُشوشًا فجأة..كل شيء كان يدعوهُ للاستسلام..ولكن عقارِبَ الساعة كان لها رأيـًا آخر!

إنها الثالثة فجرًا..كل شيء ساكِنٌ في مكانِه..كل الذكرياتِ باتت باهِتة وكل التفاصيل هادِئة..عدا عيناه التي ظلتا تحومُ هنا وهناك..تبحثُ عن شيءٍ واحِدٍ فقط، شيء ما يُجدد أملًا قد حُطم منذ زمنٍ بعيد..وها هو ذاك الشيء يُناديه..يصيحُ باسمه من بعيد..ها هو ذاك الشيء يكتُب أسطُرَ نجاحِه الأولى..وكان هذا الشيء الغامِضُ يرقُدُ فوقه تمامًا..في أعالي السماء! هل كان القمرُ قادرًا على بعثِ الروحِ فيه من جديد أم أن الدافع الحقيقي هو ذاته؟ هل العثورَ على شغفِكَ بعد فُقدانه بالأمرِ الهيّن؟ وهل تعود الحياة لتألقها بعد انطفائها؟ كانت جميع الإجاباتِ تكمُن في تِلكَ اللحظة الفارِقة..تلك اللحظة التي كانت قادِرة على تحويل كل شيء..تلك التي أعادت لنا ذاكَ المُفعَمُ بالحياة..ذاكَ الشغوف..وبالأكثر ذاكَ المُحارِب الذي أخذ يُحارب الجميعَ والكل..يُحارب الظروفَ والشدائد..يُحارب استسلامًا كاد يسحقُه..يُحارب فقط حتى ينجو..حتى يصلَ إلى الضفةِ الأخرى من الحياة، ضفةِ السعادة!

في بعضِ الأحيانِ لا نملِكُ رفاهيةَ الهروبِ..في بعضِ الأحيان لا يبـقى أمامنا حلًا سوى المُواجهة..مواجهة كل شيء وأي شيء..نجدُ أمامنا في وسَطِ ساحـةِ المُواجهة فجأة، وإذ أن خصمُنا هذه المرة هو أنفسنا..نواجِه بلا هروب! لحظةٌ واحِدة قد تُغير مسارَ كل شيء، قد تكون بداية لكل تألق..ولكن أثناءَ ذلك كانت آلافُ التغيرات قد حولته هي الأخرى لتضعُ أمامنا شخصًا قد كتبَ سطورَ حياتِه بنفسِه، وها هو يخُطّ كلماتِ كتابِه الأخيرة بأصابِعٍ قد اتخذت من الشغفِ موقدًا ومن الذكرياتِ مُلهِمًا!

ها هو يحمِلُ كلِماته بين يديه بكل فخـرٍ ويُمسكُ بأفكارِه واحِدةً تِلوَ الأخرى..ها هو يُسمِعُ ذاك العالمِ صوته من خلالِ أحرفِه وها هو يخطو أولى خطواتِه باتجاهِ حلمٍ قد بات للعديدِ من الليالي مُستحيلًا، بعينين مُغرورِقتان بدموعٍ قد اختلطت بين الفخرِ والسعادة، وبنَفَسٍ عميقٍ لم يستَطِع أخذه منذ أمدٍ بعيد..وبصرخةٍ اهتز معها أركانُ البيت..جلسَ يتأمل ذاك الكتاب المُستقر أمامه..كانت صرخته تلك كفيلة لإيصالِ كل شيء..كانت تحملُ بين أرجائها اليأس والأمل، المُقاومة والاستسلام..كانت تحمِل معها كل فصلٍ من فصولِ حياتِه..فصل شتائه القاسي وفصل ربيعه المُزهِر..تحملُ مراحِلًا مُتعددة وقصصًا مُتباعِدة..تحملُ معها أولى ابتساماته وآخر دمعةٍ ذرفها..كانت صرختُه تقول الكثير.. تمامًا ككلماتِ كتابِه والتي قد سُطِرت جميعها تحت عُنوانٍ واحد..عُنوان بداية كل شيء..ألا وهو “إنها الثالِثة فجرًا