وبقَى صوتَهُ يتعالَى

Writer: Rowaa Elsayed

Editor: Duha Muhamed

Calligraphy: Abdulrahman Barakat


عِندما يصمُتُ الجميع..وتخفتُ الأصوات..وتـتجمدُ الكلِمات.. سيبدأُ حينَها ذاكَ الصوتُ بالتعالي..بهدوءٍ ولكِن بثبات..سيبدأُ بالانطلاقِ نحوَ أُذُنيّكَ.. هو صوتٌ غامِضٌ ولكِن مُريح.. صوتٌ بِلا هويّةٍ ولكِن صريح.. هو ذاك الذي ينبعُ من داخِلِكَ تمامًا.. مِنكَ وإليكَ.. فهو صوتٌ استثنائي!

أدثّـرُ نَفسي مِن صقيعِ مشاعِري.. أُلَملـِمُ شتاتَ قلبي وأسقي تجاعيدَ أيامي بفائضِ الدمعِ.. أحارِبُ الكلامَ بالسكوتِ.. ولكِنّ شيئًا واحِدًا كان يأبى الخضوعَ لذاك الصمت الذي قدْ توارَى كياني خلفَه بالكامِل.. شيءٌ واحِدٌ كان يقِفُ هُناكَ بصمودٍ ملتحَقٍ بشماخة.. شيءٌ واحِدٌ بقى صوتُه يتعالى.. حتى كادَ يصمّ آذان الجميع, ولكِنّ التجاهُلَ كان قرارَهم الأول والأخير!

وأسوأُ ما قدْ يحدُثُ لَنا أن يغدو المشهَدَ مألوفًا، فذاكَ الصوتُ ما زالَ يهمُّ في التعالي ولكِن لا حركةً تُـؤخَذ ولا تغيّرًا يُستأنَف.. فالوضعُ ساكِنٌ كعادَتِه والصمتُ قد أسدَلَ ستائرَهُ على المكانِ من جديد.. تُكتَمُ الأفواهُ وتُغلَقُ الأعين.. ولكِن ماذا عن العقول؟ فالمشهدُ ما زال يتكررُ في عقلي مِرارًا وتِكرارًا بكل حذافيرِه.. فمنذُ متى وأصبَحَ للظُلمِ مُتَسعٌ للسِيادة؟ منذُ متى وأصبحَ لليأسِ حيّزًا من ساعاتِ يومِنا؟ أو بالأحرى باتَ يشغلُ جميعَها؟

يتسللُ لَنا الأملُ من حينٍ لآخر فيوقِظُ ما تبـّقى فينا من نخوةٍ وما زُرِعَ فينا من قِيَمٍ.. يوقِظُ ذاكَ الصوتُ فينا.. ذاكَ الذي قد رددت الأزّقـةُ الخالية صَداه!

الضمير لا يأخُذُ استراحة وإن طردتَه فلا يذهَبْ.. لا يندَمِل جُرحه إطلاقًا.. فهو أكثرُ شُعورٍ وفيٍّ في هذا العالم.. لا يترُكك إطلاقًا وصوتُه سيظلُّ يُصاحِبُكَ ما حييت.. فيعلو صوتُه ويئنُّ في كل مرةٍ تفكر فيها بما يحدثُ حولَك.. فأنتَ هُنا بينَ هذا النسيجِ الغيرِ مُتجانِس من البشرِ.. كنتَ أنتَ همزةَ الوصلِ بينَهم.. بينَ ظالِمٍ ومَظلوم، بين جابِرٍ ومَجبور.. وبين همساتٍ صامِتةٍ وصرخاتٍ مدوِيةٍ.

 كنتَ أنتَ تقِف.. تقِفُ بينَهم جميعًا بمُختَلَفِ ألوانِهم.. كنتَ أنتَ الصوت الوحيد بين هدوئِهم اللامُتناهي، وكأن صوتُك يُحيي فيهم صوتًا قد ظنوه رحَلَ عنهُم بِلا عودة.. ولكنهم ما زالوا يقِفون أمامَه بالمِرصاد، فكلما حاوَل الخروجُ وجَدَهم كالجِدارِ السميك في وجهِه.. وكأنهم يُعانِدون ذواتِهم فإذ بِهم يمنعوهُ من تخطي شِفاهِهم أو حتى العُبورِ من خلالِ نظراتِهم.. رانَ العجزُ علينا من جديد، تارِكًا إيانا نتخبطُ على نفسِ الوتيرَةِ المُعتادة.. فنحنُ لا نملِكُ أن نُغيّرَ أيًا مما يحدُثُ.. لا نملِكُ القوةَ لإيقافِ الظالِم أو لِنَصرةِ المَظلوم.. ولكِن هل يعجَزُ لسانُنا أيضًا عن النطقِ بكلمةِ حق؟ وهل تعجَزُ نظراتُنا عن إبداءِ ولو رمشةٍ من غضبٍ جامِح؟ أم تُرانا قد تقبلنا الوضعَ فماتت ضمائرُنا ودُفِنَت تحتَ الثرى؟

 ولكِن العجزَ لم يتمكن بي أنا لذاكَ الحد.. فما زال صوتُ ضميري يصيحُ بأن “كفى”.. كفانا صمتًا وخُضوعًا.. كل خطأنا أننا قد حَلُمنا بغدٍ تسطُعُ فيه شمسُ الحُريةِ.. حَلُمنا بها تُبَدِد كل ظلام الليالي التي خلَت..حَلُمنا بها تمدُّنا خُيوط النجاة.. حَلُمنا.. ولكِن أحلامُنا قد بُتِرَت جميعُها في تلكَ اللحظةِ تمامًا التي قررنا بها التخلي.. قررنا بها التحلي بالعجز.. وبالأكثرِ قررنا بها عدمَ الإصغاء لصوتِ ضميرِنا الخفي!

القلبُ يحضُنُ بينَ أشلائي بَقايا مِن أملٍ.. فهمستُ فيه بحسرَةٍ، أمازِلتَ تحتَضِنُ الأملَ؟ حُلمٌ لقيطٌ ضاعَ مِنّا في الخريفِ.. اليأسُ يُلقيهِ على الدربِ المُخيف.. وضميري يصيحُ بِنا جميعًا بالنهوضِ.. فها هو الأملُ ينبُضُ في الوريدِ.. وها هو الحُلمُ يركُضُ مُهَروِلًا نحوَ غدٍ جديد.